09 - 05 - 2025

لماذا انتشرتْ ظاهرة التحرش بعد يناير 2011؟ 

لماذا انتشرتْ ظاهرة التحرش بعد يناير 2011؟ 

شغلنى سؤال: لماذا يكون التحرش فى بعض الدول بنسب قليلة جدًا..وهذه الحقيقة تضع الباحث أمام ظاهرة غاية فى التناقض بين الشعارات والواقع: فالدول العربية (ومصر) التى يعتنق أغلب مواطنيها الإسلام..من أكثرالدول التى تنتشر فيها هذه الظاهرة.  

فى مصر ظهرتْ بدايات التحرش فى الثمانينيات من القرن العشرين.. وانشغل الإعلام وقتها بالشاب الذى حاول التحرش بفتاة بها إعاقة جسدية فى ميدان العتبة داخل الأتوبيس. ثم اختفتْ الظاهرة نسبيًا لعدة سنوات إلى أنْ عادتْ على استحياء مع بداية الألفية الثالثة.. وتفاقمتْ بعد انتفاضة شعبنا فى شهرطوبة/ يناير 2011 والمُلفتْ للنظر أنه طوال الثمانية عشريومًا الأولى، لم تشهد مصركلها حادثة تحرش واحدة، لا فى ميدان التحرير..ولافى أى ميدان من ميادين مصركلها، بينما بدأ التحرش بعد أنْ انفضّ (مولد الانتفاضة)  

ولو عدنا إلى الجذورالاجتماعية والثقافية للظاهرة، فأول ما يُلفتْ النظرأنّ التحرش فى مصر قبل يوليو52 لم يُشكل ظاهرة عامة.. ويذهب ظنى أنّ شعبنا لم يرتكب هذا الفعل الشائن. وعن هذه الظاهرة ذكر عالم الاجتماع د.سيد عويس أنه عندما جاء إلى القاهرة فى الأربعينيات، كان الشباب يُغازلون الفتيات فى الشارع بكلمات رقيقة مثل (بنرمى السلام على الجمال) أو (يا حلو صبّح يا حلو طل) والتعبيرالأخيرتحوّل إلى أغنية شهيرة غناها المطرب الشعبى محمد قنديل، فكانت الفتاة أوالسيدة ترد وهى تبتسم (عيب إختشى) وينصرف كل إلى حاله.. وما ذكره د.سيد عويس تكرّرفى الخمسينيات والستينيات وهوما شاهدته بنفسى. إذن نحن أمام ظاهرة غاية فى التعقيد والتناقض: فى الزمن الذى لم يكن فيه للأصوليين سيطرة كاملة على المجتمع لم يحدث تحرش، بينما حدث العكس مع سيطرة طغيان اللغة الدينية.. ومع ملاحظة أنه فى الخمسينيات والستينيات كانت الفتيات والسيدات ترتدين المينى والميكروجيب وتعتززن بشعورهن، وفى الصيف ترتدين بلوزات نصف كم وتنزلن البحر بالمايوهات..وفى حفلات أم كلثوم كانت السيدات تجلسن بشعورهنّ وترتدين فساتين السهرة.. ومع ملاحظة أنهنّ كنّ أنيقات محترمات، ومع ذلك لم تشهد خلال تلك الفترة ظاهرة التحرش.. وهذا الرصد يقودنا إلى البُعد الثقافى، فكلما كان المجتمع يتمتع بالحرية الشخصية، كلما انعدمتْ كل أشكال الاعتداء على الآخر.. ومن بينها التحرش.. كما أنّ المناخ الثقافى الذى يحرص على عدم التفرقة بين الأنثى والذكر..تكون العلاقة بينهما علاقة سوية ندية.. ويحدث العكس مع المغالاة فى التدين.. ودعوات الفصل بينهما بدءًا من الحضانة حتى الجامعة.. وكلما نشأ الجنسان فى مناخ ثقافى يُكرّس لحقيقة أنه لا فرق بينهما من المنظور الإنسانى (وليس البيولوجى) كان الاحترام بينهما هو القاعدة وليس الاستثناء والعكس صحيح.. وهنا تبرزأهمية النظرة العامة للمرأة، هل هى إنسان مثلها مثل الرجل أم مجرد موضوع للفراش؟ وفى هذا الجانب الثقافى تبدو الأهمية القصوى لدور التعليم والإعلام. فإذا كان هذا الدور مع ترسيخ الحقيقة العلمية التى تؤكد أنّ المرأة إنسان فاعل فى المجتمع (ثقافيًا وعلميًا) وأنها أثبتتْ كفاءتها فى شتى مناحى الحياة.. وأنّ الكثيرات أسهمن فى العلوم الطبيعية والإبداع الشعرى والروائى.. والفقيرات عملن فى المصانع والحقول وأنّ الأبحاث العلمية أثبتتْ أنه رغم صغر حجم مخ المرأة فإنها أكثر ذكاءً من الرجل.

وعن تأثيرالعوامل الاجتماعية (مستوى المعيشة، مستوى التعليم إلخ) فلا يستطيع أحد إنكار دورها..وإنْ كنتُ أعتقد أنّ هذا الدور يتشكل وفق المناخ الثقافى.. وعلى سبيل المثال فإنّ الفقراء فى مصر قبل يوليو52 لم يتحرّشوا بالفتيات، لا فى الجامعة ولا فى الشوارع، كما أنّ الزى لايدخل فى الاعتبار بدليل الحالات التى رصدتها منظمات حقوق الإنسان للتحرش بفتيات محجبات ومنتقبات.. كما أنّ دور البيئة (المقارنة بين مجتمع المدينة والريف) نسبى.. فالفضيلة قد تكون فى الريف أكثر من المدينة.. وهذا ما لاحظه أحد قراء صحيفة الأهرام فى سلسلة مقالات بدأتْ فى 24فبراير1915بين فتاة وفتى.. وفى أحد هذه المقالات ردّ الفتى على المحافظين الذين ينصحون بمحاربة الرذيلة ويُهاجمون دعاة السفورعلى النمط الأوروبى فكتب (إنّ البديل هو السفورعلى نمط فلاحات القرى).  

قد يحتج البعض بأنّ عدم القدرة على الزواج بسبب الفقر، يدفع بعض الشباب إلى التحرش بالفتيات.. وهذه الحجة يجب أنْ تؤخذ بشكل نسبى، بمعنى أنها ليستْ قاعدة.. والدليل على ذلك أنّ عدد المُتحرشين قياسًا على عدد السكان ينفى دور الفقر، فإذا كان المُتحرشون بالعشرات أو حتى بالمئات فإنّ الفقراء بالملايين.. كما أنه إذا كان بعض المُتحرشين من الفقراء، فإنّ البعض الآخر من أولاد الأثرياء.. كما أوضحتْ التحقيقات فى حادثة التحرش بإحدى المطربات أمام سينما مترو فى عيد الفطرمنذ سنوات، إذْ تبين أنّ معظم الشباب الذين تحرشوا بالمطربة من أسر ثرية.. وهذا يعود بنا إلى البُعد الثقافى باعتباره أهم العوامل على ترسيخ قيمة الفضيلة واحترام خصوصية الآخر، أوالعكس عندما يُركز على الاقصاء والتمييز، وأنّ الذكر أفضل من الأنثى.. وأنّ المحجبة أفضل من التى تــُـطلق شعرها للشمس وللهواء.
 ---------------

بقلم: طلعت رضوان

(من العدد الأسبوعي للمشهد)

مقالات اخرى للكاتب

أين الدول العربية من التنافس الأمريكى الروسى؟